سورة الأنفال - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنفال)


        


{واعلموا أَنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ} لأنها سببُ الوقوعِ في الإثم والعقاب أو محنةٌ من الله عز وجل ليبلُوَكم في ذلك فلا يحمِلَنّكم حبُّهما على الخيانة كأبي لُبابة {وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} لمن آثرَ رضاه تعالى عليهما وراعى حدودَه فيهما فنيطوا هِممَكم بما يؤديكم إليه. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} تكريرُ الخطابِ والوصفِ بالإيمان لإظهار كمالِ العنايةِ بما بعده والإيذانِ بأنه مما يقتضي الإيمان يقتضي الإيمانُ مراعاتَه والمحافظةَ عليه كما في الخطابين السابقين {إَن تَتَّقُواْ الله} أي في كل ما تأتون وما تذرون {يَجْعَل لَّكُمْ} بسبب ذلك {فُرْقَانًا} هدايةً في قلوبكم تفرِّقون بها بين الحقِّ والباطل أو نصراً يفرّق بين المُحِقِ والمُبطل بإعزاز المؤمنين وإذلالِ الكافرين، أو مخرجاً من الشبهات أو نجاةً عما تحذرون في الدارين أو ظهوراً يشهَرُ أمرَكم وينشرُ صِيتَكم، من قولهم بتّ أفعلُ كذا حتى سطَع الفُرقانُ أي الصبح {وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ} أي يسترها {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ذنوبَكم بالعفو والتجاوزِ عنها، وقيل: السيئاتُ الصغائرُ والذنوبُ الكبائرُ، وقيل: المرادُ ما تقدم وما تأخر لأنها في أهل بدر وقد غفرها الله تعالى لهم وقوله تعالى: {والله ذُو الفضل العظيم} تعليلٌ لما قبله وتنبيهٌ على أن ما وعده الله تعالى لهم على التقوى تفضّلٌ منه وإحسانٌ لا أنه مما يوجبه التقوى كما إذا وعد السيدُ عبدَه إنعاماً على عمل.
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ} منصوبٌ على المفعولية بمضمر خوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم معطوفٍ على قوله تعالى: واذكروا إِذْ أَنتُمْ إلخ مسوقٌ لتذكير النعمةِ العامةِ للكل، أي واذكر وقتَ مكِرهم بك {لِيُثْبِتُوكَ} بالوَثاق، ويعضُده قراءةُ من قرأ: ليقيدوك، أو الإثخانِ بالجرح، من قولهم: ضربه حتى أثبته لا حَراك به ولا بَراح، وقرئ {ليثبّتوك} بالتشديد وليبّيتوك من البيات.
{أَوْ يَقْتُلُوكَ} أي بسيوفهم {أَوْ يُخْرِجُوكَ} أي من مكة وذلك «أنهم لما سمعوا بإسلام الأنصارِ ومبايعتِهم له عليه الصلاة والسلام فرِقوا واجتمعوا في دار الندوة يتشاورون في أمره صلى الله عليه وسلم فدخل إبليسُ عليهم في صورة شيخٍ وقال: أنا من نجد سمعتُ باجتماعكم فأردت أن أحضُركم ولن تعدَموا منى رأياً ونُصحاً فقال أبو البَحْتري: رأيي أن تحبِسوه في بيت وتسدّوا منافذه غيرَ كوّةٍ تلقون إليه طعامَه وشرابَه منها حتى يموت فقال الشيخ: بئسُ الرأيُ يأتيكم من يقاتلُكم من قومه ويخلِّصه من أيديكم فقال هشامُ بنُ عمْرو: رأيي أن تحمِلوه على جمل وتُخرجوه من أرضكم فلا يضركم ما صنع فقال: وبئس الرأي يُفِسدُ قوماً غيرَكم ويقاتلكم بهم فقال أبو جهل: أنا أرى أن تأخُذوا من كل بطنٍ غلاماً وتعطوه سيفاً فيضرِبوه ضربةً واحدة فيتفرقَ دمُه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريشٍ كلِّهم فإذا طلبوا العقلَ عقَلْناه فقال: صدق هذا الفتى فتفرقوا على رأيه فأتى جبريلُ النبي عليهما الصلاة والسلام وأخبره بالخبر وأمره بالهجرة فبيّت عليّاً رضي الله تعالى عنه على مضجعه وخرج هو مع أبي بكر رضي الله عنه إلى الغار» {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله} أي يرد مكرَهم عليهم أو يجازيهم عليه أو يعاملهم معاملةَ الماكرين وذلك بأن أخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حمَلوا عليهم فلقُوا منهم ما لقُوا {والله خَيْرُ الماكرين} لا يُعبأ بمكرهم عند مكرِه، وإسنادُ أمثالِ هذا إليه سبحانه مما يحسن للمشاكلة، ولا مساغَ له ابتداءً لما فيه من إيهام ما لا يليق به سبحانه.


{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا} التي حقها أن يخِرَّ لها صُمُّ الجبال {قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا} قاله اللعينُ النضْرُ بنُ الحارث، وإسنادُه إلى الكل لما أنه كان رئيسَهم وقاضيَهم الذي يقولون بقوله ويأخُذون برأيه وقيل: قاله الذين ائتمروا في أمره صلى الله عليه وسلم في دار الندوة، وهذا كما ترى غايةُ المكابرة ونهايةُ العِناد كيف لا ولو استطاعوا شيئاً من ذلك فما الذي كان يمنعهم من المشيئة وقد تُحُدّوا عشرَ سنين وقُرعوا على العجز وذاقوا من ذلك الأمرَّيْن ثم قورعوا بالسيف فلم يعارضوا بما سواه مع أنَفتهم وفرْطِ استنكافِهم أن يُغلَبوا لاسيما في باب البيان {إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الاولين} أي ما يسطرونه من القصص.
{وَإِذَا قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} هذا أيضاً من أباطيل ذلك اللعين. روي أنه لما قال: إنْ هذا إلا أساطيرُ الأولين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ويلَك إنه كلامُ الله تعالى» فقال ذلك والمعنى أن القرآن إن كان حقاً منزلاً من عندك فأمطِرْ علينا الحجارةَ عقوبةً على إنكارنا أو ائتنا بعذاب أليم سواه، والمرادُ منه التهكمُ وإظهارُ اليقينِ والجزمِ التامِّ على أنه ليس كذلك وحاشاه، وقرئ {الحقُّ} بالرفع على أن هو مبتدأٌ لا فصلٌ، وفائدةُ التعريفِ فيه الدِلالةُ على أن المعلق به كونُه حقاً على الوجه الذي يدّعيه صلى الله عليه وسلم وهو تنزيلُه لا الحقُّ مطلقاً لتجويزهم أن يكون مطابقاً للواقع غيرَ منزلٍ كالأساطير {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} جوابٌ لكلمتهم الشنعاءِ وبيانٌ للموجِب لإمهالهم والتوقفِ في إجابة دعائِهم واللامُ لتأكيد النفي والدِلالةِ على أن تعذيبَهم عذابَ استئصالٍ والنبيُّ عليه الصلاة والسلام بين أظهرِهم خارجٌ عن عادته تعالى غيرُ مستقيمٍ في حُكمه وقضائه، والمرادُ باستغفارهم في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} إما استغفارُ مَنْ بقِيَ منهم من المؤمنين أو قولُهم: اللهم اغفِرْ أو فرضُه على معنى لو استغفروا لم يعذبوا كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}


{وَمَا لَهُمْ أَن لا يُعَذّبْهُمُ الله} بيانٌ لاستحقاقهم العذابَ بعد بيانِ أن المانعَ ليس من قِبَلهم، أي وما لهم مما يمنع تعذيبَهم متى زال ذلك وكيف لا يعذّبون {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام} أي وحالُهم ذلك، ومِنْ صدّهم عنه إلجاءُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة وإحصارُهم عام الحديبية {وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ} حالٌ من ضمير يصدون مفيدةٌ لكمال قُبحِ ما صنعوا من الصد فإن مباشرتَهم للصد عنه مع عدم استحقاقِهم لولاية أمرِه في غاية القُبح وهو ردٌّ لما كانوا يقولون: نحنُ ولاةُ البيتِ والحرم فنصد من نشاء ونُدخِل من نشاء {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون} من الشرك الذين لا يعبُدون فيه غيرَه تعالى {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أنه لا ولايةَ لهم عليه، وفيه إشعارٌ بأن منهم من يعلم ذلك ولكنه يعاند، وقيل: أريد بأكثرهم كلُّهم كما يراد بالقلة العدم {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت} أي دعاؤهم أو مايسمونه صلاةً أو ما يضعون موضعها {إِلاَّ مُكَاءً} أي صفيراً فُعال من مكا يمكو إذا صفر وقرئ بالقصر كالبُكى {وَتَصْدِيَةً} أي تصفيقاً، تفعِلةً من الصَّدَى أو من الصدّ على إبدال أحدِ حرفي التضعيف بالياء، وقرئ {صلاتَهم} بالنصب على أنه الخبرُ لكان، ومساقُ الكلام لتقرير استحقاقِهم العذابَ أو عدمِ ولايتِهم للمسجد فإنها لا تليق بمن هذه صلاتُه. رُوي أنهم كانوا يطوفون عراةً الرجالُ والنساء مشبكين بين أصابعِهم يصفرون فيها ويصفقون وقيل: كانوا يفعلون ذلك إذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي يخلِطون عليه ويُرَون أنهم يصلون أيضاً {فَذُوقُواْ العذاب} أي القتلَ والأسرَ يوم بدرٍ وقيل: عذابَ الآخرة، واللامُ يحتمل أن تكون للعهد والمعهودُ ائتنا بعذاب أليم {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} اعتقاداً وعملاً.
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أموالهم لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} نزلت في المطعِمين يوم بدر وكانوا اثنيْ عشَرَ رجلاً من قريش يُطعم واحد منهم كلَّ يوم عشْرَ جُزُرٍ، أو في أبي سفيان استأجر ليوم أحُد ألفين سوى من استجاش من العرب وأنفق فيهم أربعين أوقيةً أو في أصحاب العِير فإنه لما أصيب قريش يوم بدر قيل لهم: أعينوا بهذا المالِ على حرب محمد لعلنا ندرك ثأرَنا منه ففعلوا والمرادُ بسبيل الله دينُه واتباعُ رسوله {فَسَيُنفِقُونَهَا} بتمامها، ولعل الأول إخبارٌ عن إنفاقهم في تلك الحالِ وهو إنفاقُ يوم بدرٍ، والثاني إخبارٌ عن إنفاقهم فيما يُستقبل وهو إنفاقُ يوم أحدٍ، ويحتمل أن يُرادَ بهما واحدٌ على مساق الأول لبيان الغرضِ من الانفاق، ومساق الثاني لبيان عاقبتِه وأنه لم يقع بعد {ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} ندماً وغماً لفواتها من غير حصول المقصودِ، جُعل ذاتُها حسرة وهي عاقبةُ إنفاقها مبالغةً {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} آخرَ الأمر وإن كان الحربُ بينهم سجالاً قبل ذلك {والذين كَفَرُواْ} أي تموا على الكفر وأصروا عليه {إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} أي يساقون لا إلى غيرها.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9